كيف تصاعد استخدام العملات المشفرة في أفريقيا؟

استخدام العملات المشفرة ينتشر في القارة السمراء

استخدام العملات المشفرة ينتشر في القارة السمراء

في ظل الاهتمام المتزايد باعتماد العملات المشفرة في أجزاء مختلفة من العالم، تبرز أفريقيا واحدةً من الأقاليم التي تُظهر إمكانات كبيرة ورغبة مُلحة للتوسع في هذا المجال؛ وذلك بالنظر إلى تحركات عدة بلدان أفريقية إزاء اعتماد العملات المشفرة وإكسابها صفة قانونية من ناحية، واهتمام مواطني هذه الدول هم أنفسهم بما في ذلك من هم في الشتات.

باقتناء تلك العملات المشفرة والتعامل من خلالها، بصفتها بديلاً براقاً للنظم المصرفية التقليدية، مدفوعين بعوامل عدة، بما في ذلك عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي والأمني في كثير من الدول الأفريقية، ومحدودية الوصول إلى الخدمات المالية، فضلاً عن الفوائد المحتملة التي تقدمها العملات المشفرة؛ ما يكشف كون ذلك التبني للعملات المشفرة ليس مجرد اتجاه، بل هو استجابة لمختلف العوامل الاقتصادية والاجتماعية الفريدة للقارة الأفريقية.

ولعل البيانات المتاحة بحسب مؤشر اعتماد العملات المشفرة العالمي (Chain Analysis) لعام 2023، تُظهر الطفرة الملحوظة في اعتماد العملات المشفرة في القارة الأفريقية؛ وذلك بقيادة دول مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا وكينيا؛ حيث تحتل نيجيريا المرتبة الثانية من بين جميع أنحاء العالم في اعتماد العملات المشفرة بنحو 66.78%، تليها جنوب أفريقيا بنسبة 8.36%، وغانا بنحو 5.24%، فيما جاءت كينيا – وفق المؤشر – الدولة الأكبر حجماً واهتماماً بالعملات المشفرة في شرق أفريقيا.

محركات دافعة

يعزى التبني المتزايد للعملات المشفرة في أفريقيا إلى عدة عوامل، يمكن استعراضها على النحو التالي:

1- تراجع الاستقرار الاقتصادي وانخفاض قيمة العملات المحلية: أدت حالة التضخم المتفشي وعدم الاستقرار الاقتصادي، وما ترتب عليه من تقلب أسعار العملات المحلية، في ظل ضعف الأنظمة المصرفية في عدد من الدول الأفريقية، إلى تولد الحاجة إلى معاملات فعالة عبر الحدود. ومن ثم مثَّلت العملات المشفرة حلاً بديلاً مستقراً ولا مركزياً للأنظمة المالية الضعيفة وغير الجديرة بالثقة، وأداة متعددة الاستخدامات بالنسبة إلى الأفراد، في إطار ما تقدمه من حلول مبتكرة للتغلب على العقبات التي تفرضها الأنظمة المالية التقليدية.

2- تسهيل المعاملات عبر الحدوديعد إرسال الأموال واستلامها عبر الحدود تحدياً شائعاً في أفريقيا؛ نظراً إلى وجود معوقات عديدة في هذا المضمار، بما في ذلك الرسوم المرتفعة وبطء أوقات المعالجة، وتعقُّد الأنظمة المالية التقليدية في التعامل مع عمليات التوثيق الصارمة والمليئة بالغموض، خاصةً فيما يتعلق بالرسوم.

ويزداد الأمر صعوبةً، بالنسبة إلى الذين يعيشون في الشتات مع أسرهم؛ إذ يواجهون صعوبة في إرسال قيمة الأموال إلى أوطانهم؛ نظراً إلى ضياعها في رسوم صرف العملات، كما أنها لا يمكن الاعتماد عليها في حالات الطوارئ؛ بسبب بطء أوقات المعالجة؛ ولهذا تبدو العملات المشفرة حلاً براقاً؛ حيث تسهل المعاملات عبر الحدود دون الحاجة إلى وسطاء مثل البنوك أو خدمات التحويلات.

3- أداة للشركات الصغيرة والمتوسطة لتلبية احتياجات العملاء: تحرص الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم في أفريقيا حالياً، على قبول العملات المشفرة وسيلةً للدفع، ولا يقتصر ذلك على الشركات المتخصصة في التكنولوجيا فحسب، بل يعتمدها أيضاً البائعون التقليديون؛ حيث أصبح بإمكان الأشخاص الدفع مقابل الحصول على الخدمات مباشرة بالعملات المشفرة، دون الحاجة إلى التحويل بالعملات الورقية؛ ما يجعل هذه الشركات تلبي احتياجات العملاء المحليين والمغتربين من جهة، ومن جهة أخرى، تستفيد بشدة من تنوع العملات المشفرة، وتوفيرها خيارات دفع متعددة.

4- وسيلة جذابة للتجارة والاستثمار في ظل زيادة معدلات البطالة: خلال الفترة الأخيرة، أصبح تداول العملات المشفرة في أفريقيا أداة للاستثمار على نحو واسع، خاصةً بعد انتشار قصص نجاح متداولي العملات المشفرة، والمستثمرين المستفيدين من تقلب أسعارها، وزيادة معدلات البطالة في القارة الأفريقية؛ ما دفع عدداً متزايداً من الأفراد إلى تقصي سبل الاستثمار في هذا المجال، والبدء في تداول العملات المشفرة وجني الأرباح من وراء ذلك.

5- تعزيز أمن المعاملات: تمنح تقنية بلوك تشين (blockchain) المبتكرة، التي تدعم العملات المشفرة، درجة عالية من الأمان؛ ما يجعلها خياراً جذاباً في حالات المعاملات التي تتطلب مستويات عالية من الثقة والشفافية في أفريقيا. وعليه، تلجأ الشركات الدولية العاملة داخل أفريقيا إلى معالجة المعاملات بسلاسة وثقة، بفضل ميزات الأمان القوية التي توفرها العملات المشفرة.

6- الحماية من الاضطرابات السياسية والأمنية: دفعت الاضطرابات السياسية والتوترات الأمنية في بعض الدول الأفريقية نحو تعزيز انعدام الثقة بالنظم المالية التقليدية؛ لذا بات يُنظَر إلى العملات المشفرة على أنها وسيلة توفر الإحساس بالأمان والاستقلال؛ حيث تعد ملاذاً لهم بعيداً عن سيطرة الحكومة، وحماية لثرواتهم من عدم الاستقرار السائد في تلك المناطق، الذي من شأنه أن يُعرض أصولهم لمخاطر الاستيلاء عليها من قبل أي طرف من الأطراف المتنازعة.

7- توفير الحرية المالية للمتعاملين في ظل محدودية الوصول للخدمات المصرفية: تعد أفريقيا موطناً لعدد كبير من السكان الذين لا يتعاملون مع البنوك؛ إذ يفتقر الملايين من الأفراد القدرة على الوصول إلى الخدمات المالية الرسمية؛ حيث غالباً ما تفشل الأنظمة المصرفية التقليدية في الوصول إلى المناطق النائية، بالشكل الذي يسلبهم القدرة على أداء المعاملات المالية بشكل سلس؛ ما يخلق فرصة للعملات المشفرة للبروز بديلاً حيوياً للشمول المالي، وشريان حياة للمعاملات المالية الأساسية في المناطق الريفية، كالتي موجودة في كينيا ونيجيريا؛ حيث تكون البنية التحتية المصرفية التقليدية محدودة.

اتجاهات رئيسية

خلال السنوات الأخيرة، عمدت عدد من الدول الأفريقية إلى استكشاف الفرص المتاحة للاستفادة من مزايا العملات المشفرة، ويمكن الوقوف على أبرز الاتجاهات في هذا الصدد على النحو الآتي:

1- تسجيل أفريقيا معاملات بمليارات الدولارات بالعملات المشفرة: تمثل منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، أصغر اقتصاد مشفر من بين جميع المناطق الحريصة على زيادة اعتماد العملات المشفرة في اقتصادها، وتقدر بنحو 2.3% من حجم المعاملات العالمية خلال الفترة بين يوليو 2022 ويونيو 2023. غير أن حجم المعاملات في أفريقيا خلال هذه الفترة، البالغة نحو 117.1 مليار دولار، يكشف عن غزو العملات المشفرة للأسواق الرئيسية في أفريقيا؛ حيث أصبحت جزءاً مهماً من الحياة اليومية للعديد من السكان الأفارقة.

2- احتلال نيجيريا الصدارة في مجال العملات المشفرة بأفريقيا: تعد نيجيريا الدولة الأكبر في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء من حيث عدد السكان والاقتصاد، كما تمثل أكبر اقتصاد أفريقي للعملات المشفرة، وتأتي واحدةً من أصل ست دول فقط من بين أفضل 50 دولة على مستوى العالم؛ من حيث حجم معاملات العملات المشفرة، الذي نما فيها على أساس سنوي بمعدل يقدر بنحو 9%؛ ما يضعها في المرتبة الثالثة بين هؤلاء الستة. ولعل الركودين الكبيرين اللذين وقعت فيهما نيجيريا منذ عام 2016، من جراء الوضع السياسي غير المستقر، وجائحة كوفيد-19، وانهيار أسعار النفط، قد ساهمت جميعاً في ارتفاع معدلات البطالة لأكثر من 20 مليون شخص في عام 2021؛ ما شكل حافزاً نحو تقصي فرص الربح في العملات المشفرة من جانب شباب كُثر. وعليه، وافقت الحكومة النيجيرية في مطلع عام 2023، على سياسة بلوك تشين وطنية، نحو مزيد من إضفاء الصفة القانونية على العملات المشفرة في الدولة، في ظل الأهمية التي تتمتع بها العملات المشفرة في الاقتصاد النيجيري. ويدلل على ذلك أنه في العام المنتهي في يونيو من عام 2023، بلغت معاملات العملات المشفرة نحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي في نيجيريا.

3- مساعٍ كينية لإضفاء إطار قانوني على استخدام العملات المشفرة: على الرغم من إصدار البنك المركزي الكيني (CBK) في عام 2015 شعاراً عاماً، يسلط الضوء على أن “البيتكوين والمنتجات المماثلة ليست عملة قانونية، ولا يتم تنظيمها في كينيا”؛ ما ساهم في تثبيط الجمهور عن التعامل بالعملات المشفرة، فإنه بمرور السنوات، أضحت كينيا تتمتع بواحد من أعلى المعدلات العالمية لتملك العملات المشفرة، بنسبة 8.5%؛ ما يضعها ضمن أفضل خمس دول تمتلك العملات المشفرة.

وفي ضوء ذلك، اقترحت الحكومة الكينية في بداية عام 2023، مشروع قانون يدعو إلى تعريف ثابت للأوراق المالية للعملات الرقمية وحفظ السجلات من قبل تجار العملات المشفرة المرخصة؛ ما مثَّل خطوة إيجابية في سبيل مزيد من تبني العملات المشفرة في كينيا مستقبلاً.

4- جهود حكومة موريشيوس لتعزيز اعتماد العملات المشفرة: في إطار مساعي دولة موريشيوس تجاه حماية المستهلكين، وتعزيز اعتماد العملات المشفرة وجذب المتداولين، أصدرت حكومة موريشيوس في عام 2021، أول إطار عمل لترخيص العملات المشفرة في أفريقيا، وهو قانون خدمات الأصول الافتراضية والرموز الأولية، كتشريع شامل لإصدار الرموز المميزة الجديدة.

واعتباراً من عام 2022، احتلت موريشيوس المرتبة الـ131 من بين 157 دولة تتبنى العملات المشفرة، كما يوجد بها ما لا يقل عن 23,208 مالكاً للعملات المشفرة في الدولة. وعلى الرغم من كون ذلك العدد يبدو منخفضاً مقارنة بعدد السكان البالغ 1.3 مليون نسمة، فإنه يُظهر اهتماماً صاعداً لدى موريشيوس بالعملات المشفرة، باعتبارها واحدة من بين الدول القليلة التي لديها تراخيص للعملات المشفرة في القارة.

5- تزايد دور بورصات العملات المشفرة في جنوب أفريقيا: تتولى اثنتان من بورصات العملات المشفرة البارزة VALR وLuno، في جنوب أفريقيا زمام المبادرة في دفع الاعتماد على العملات الرقمية في الدولة على نطاق واسع؛ حيث مكنت شراكتهما الاستراتيجية مع شركة CryptoConvert للمدفوعات عبر الإنترنت، المستخدمين من إجراء معاملات العملة المشفرة، من خلال تطبيقات الهاتف المحمول السهلة الاستخدام؛ ما قد يحول جنوب أفريقيا إلى مركز للابتكار في مجال التمويل الرقمي، بيد أن ذلك التعاون لا يقتصر على مدفوعات العملات المشفرة فحسب، بل يقدم عدداً كبيراً من الخدمات بغية تلبية الاحتياجات المتنوعة للمستهلكين.

جدير بالذكر أن هيئة سلوك القطاع المالي (FSCA) قد صنفت العملات المشفرة رسمياً في جنوب أفريقيا، منتجات مالية؛ ما مثَّل خطوة مهمة وإضافية في طريق الاعتراف التنظيمي بالعملات المشفرة في الدولة، كما يدل ذلك على القبول المتزايد للعملات المشفرة وتكنولوجيا البلوك تشين، ويعكس القرار في الوقت ذاته التزاماً حكومياً بتعزيز الابتكار والشمول المالي داخل الدولة.

6- إقبال واسع في غانا على العملات المشفرة: وفقاً لأحدث مؤشر لاعتماد العملات المشفرة، الذي أجراه Finder.com، تحتل غانا المرتبة التاسعة بين 26 دولة أخرى من حيث اعتماد العملات المشفرة، لتتفوق غانا على دول مثل هونج كونج وسنغافورة والبرازيل والنرويج وكندا والولايات المتحدة الأمريكية ونيوزيلندا وألمانيا والمملكة المتحدة واليابان، وغيرها.

وفي هذا الصدد، تُظهر غانا حرصاً كبيراً على تعزيز نمو العملات المشفرة واعتمادها داخل الدولة. وعلى الرغم من عدم تنظيم العملات المشفرة بها، فإنها ليست محظورة في الدولة، بل تحظى بإقبال واسع من قبل الشركات التي تتفاعل مع العملات المشفرة؛ ما من شأنه أن يعمل على تعزيز اعتماد العملات المشفرة في الدولة في المستقبل المنظور. ولعل فرض ضريبة بنسبة 1.5%، التي تم تشريعها ضريبةً إلكترونيةً على الخدمات المالية الرقمية في عام 2022، تعد خطوة حقيقية في هذا الطريق.

7- امتلاك متزايد لمواطني دول أفريقية للعملات المشفرة: تُظهر البيانات إقبالاً واسعاً من قبل مواطني عدة دول أفريقية نحو امتلاك عملات مشفرة؛ فبحسب تقرير حديث صادر عن شركة Triple A، فإن نحو 10.34% من النيجيريين يمتلكون عملات مشفرة؛ أي نحو 22 مليون شخص، فيما يمتلك نحو 17.3% من البالغين في غانا على الأقل عملاتٍ مشفرةً، بما يعادل نحو 3.1 مليون بالغ، وهو بذلك أعلى من المتوسط العالمي الذي يبلغ 15% من البالغين الذين يمتلكون العملات المشفرة؛ وذلك بحسب المؤشر السالف ذكره الصادر عن مؤسسة Finder.

 تحديات راهنة

رغم الآفاق الإيجابية التي يحملها تعزيز اهتمام القارة الأفريقية بالعملات المشفرة في خضم تزايد الإقبال على اقتنائها، والتوقعات المستقبلية الواعدة لاعتماد العملات المشفرة في أفريقيا، في ظل توسع القارة في تبني الحلول المبتكرة باستخدام تقنية (blockchain)، مثل منصات الدفع عبر الهاتف المحمول وتطبيقات التمويل اللامركزية، بما يشير إلى قدرة العملات المشفرة على إحداث ثورة في الأنظمة المالية ودفع النمو الاقتصادي في جميع أنحاء أفريقية؛ فإن ثمة تحديات تحتاج من الحكومات الأفريقية ضرورة معالجتها في سبيل تحقيق هذا الهدف.

وأول هذه التحديات يتمثل في اختلاف الأطر التنظيمية للعملات الرقمية في الدول الأفريقية، وتضاربها في بعض الأحيان، في ظل إعراب بعض الحكومات عن مخاوفها بشأن المخاطر المحتملة من وراء اعتماد العملات المشفرة رسمياً في اقتصاداتها؛ ما يحتاج قدراً مرتفعاً من التنسيق بين حكومات الدول الأفريقية في وضع أطر تنظيمية متناسبة؛ من أجل ضمان معاملات مالية سلسة وبدون قيود بين البلدان المختلفة.

من جهة ثانية، فإن زيادة الوعي حول العملات المشفرة لضمان فهم المستخدمين للمخاطر والفوائد التي تنطوي عليها، يأتي من ضمن التحديات التي تتحمل مسؤوليتها الحكومات؛ وذلك من أجل جني فوائد العملات المشفرة دون أن يكون لها أي تأثيرات سلبية على المواطنين أو الاقتصاد بصفة عامة.


المصدر: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.