
مع القيود الأمريكية على وصول الصين للرقائق، ترى بكين أن الاستراتيجية الأكثر فعالية هي السرعة والحجم ويأتي ذلك من خلال إغراق السوق، وتغيير التوازن قبل ظهور احتكارات الذكاء الاصطناعي
تطور متوقع أم خطوة انتقامية؟ تساؤلات برزت مؤخراً بعد أن طرحت الصين نماذج متطورة من الذكاء الاصطناعي في وقت قصير وأتاحتها للعامة. فما هي أسباب الصين من وراء ذلك؟ وأي تهديد قد يحمله هذا الأمر للقطاع؟
في الفترة الأخيرة، شددت الولايات المتحدة قبضتها على تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، مانعةً بذلك وصول الصين إلى رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة وحصر النماذج الملكية خلف الحواجز التجارية.
مع الوقت بدا الرد الصيني “الانتقامي” المتوقع هو: بناء الصين جدرانها الخاصة، وحماية نفسها من الاختراقات، ومضاعفة السرية المفروضة على تطويرها لهذا القطاع الحساس. وبدلاً من ذلك، فعلت الصين شيئًا غير متوقع: غمرت بكين العالم بنماذج الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدمًا.
ففي الأسابيع الأخيرة أغرقت مجموعات التكنولوجيا الصينية السوق بنماذج ذكاء اصطناعي قوية. ولكن في صناعة تُعد السرية فيها هي القاعدة، فإن الصدمة الحقيقية تكمن في انفتاحها، فالنماذج الصينية كانت مجانية ومتاحة للتنزيل والتعديل والدمج.
تحركات صينية شديدة السرعة
كانت وتيرة الدفع بنماذج الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر في الصين لا هوادة فيها. منذ ظهور النسخة الأولى من “ديب سيك DeepSeek R1” لأول مرة في يناير، والذي عده البعض رداً صينياً على سلسلة o1 من اوبن إيه آي OpenAI – تبعتها موجة من النماذج ذات القدرات المتزايدة.
وبحسب صحيفة الايكونوميست فقد كان التأثير على الأسواق الصينية مذهلاً، إذ شهدت الأسهم أفضل بداية لها هذا العام على الإطلاق، وارتفع مؤشر هانج سنج للتكنولوجيا، الذي يتتبع أكبر شركات التكنولوجيا الصينية المدرجة في هونج كونج، بأكثر من 40% منذ منتصف يناير.
وتزعم شركة “علي بابا” أن أحدث نموذج ذكاء اصطناعي لديها QwQ-32B ينافس DeepSeek R1 وقد حقق أداءً جيدًا في اختبارات القياس القياسية الرسمية. وفي كل بضعة أسابيع يظهر نموذج آخر، مما يدفع حدود ما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر.
بحسب تقرير موسع لصحيفة فاينانشيال تايمز فإنه وللوهلة الأولى، قد يبدو هذا التصرف من جانب الصين بمثابة تصريح بأن الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون مفتوحًا للعالم، وليس فقط لحفنة من الشركات. ولكن في عالم الأعمال والنواحي الجيوسياسية، فنادرًا ما يكون الكرم دون استراتيجية. وبذلك يصبح السؤال الحقيقي هو: ليس لماذا تُتيح الصين الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، بل لماذا افترض العالم أنها لن تفعل ذلك.
خطر أمني

تُقيد شركات أوبن إيه آي OpenAI وغوغل ديب مايند Google DeepMind وأنثروبيك Anthropic الوصول الكامل إلى أكثر نماذج الذكاء الاصطناعي تقدمًا
في الوقت الحالي، تتعامل معظم شركات التكنولوجيا الأمريكية مع الذكاء الاصطناعي كمورد حصري، مما يقيد الوصول إلى أقوى نماذجها خلف جدران الدفع. تُقيد شركات أوبن إيه آي OpenAI وجوجل ديب مايند Google DeepMind وأنثروبيك Anthropic الوصول الكامل إلى أكثر نماذج الذكاء الاصطناعي تقدمًا، وتقدمها من خلال خطط مثل الاشتراكات المدفوعة وصفقات المؤسسات.
في الوقت نفسه، تنظر الحكومة الأمريكية إلى الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر على أنه خطر أمني، خوفًا من إمكانية تعديل النماذج غير المنظمة وتحويلها إلى أسلحة سيبرانية. وذلك يضغط المشرعون الأمريكيون بالفعل لحظر برنامج “ديب سيك” للذكاء الاصطناعي من الأجهزة الحكومية، مشيرين إلى مخاوف تتعلق بالأمن القومي.
لكن شركات التكنولوجيا الصينية تتخذ نهجًا مختلفًا تمامًا. فمن خلال إتاحة الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، فإنها لا تتجنب العقوبات الأمريكية فحسب، بل تعمل أيضًا على لامركزية التطوير والاستفادة من المواهب العالمية لتحسين نماذجها. حتى القيود المفروضة على رقاقات نفيديا المتطورة تُصبح أقل وطأة عندما يتمكن بقية العالم من تدريب نماذج الصين وتحسينها باستخدام أجهزة بديلة.
وفي تقرير مفصل، تحدثت مجلة نيتشر الأمريكية عن تقارير إعلامية أشارت إلى أن OpenAI كانت تُراجع مزاعم بأن “ديب سيك” درّبت نموذجها باستخدام مخرجات من نماذج OpenAI. ولم تُعلّق DeepSeek على هذه المزاعم حتى الآن.
وحتى لو كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها “لن تُقلل بأي حال من الأحوال من إنجاز “ديب سيك” ، كما يقول لويس تونستول، الباحث في منصة هاجنج فيس Hugging Face للعلوم المفتوحة، ومقرها برن، سويسرا في تصريحاته للإيكونوميست.
إعادة تشكيل محتملة للقطاع

يؤكد الخبراء أن الذكاء الاصطناعي يتطور من خلال التكرار، فكل إصدار جديد يبني على الإصدار السابق، مُعالجًا نقاط الضعف، ومُوسّعًا للإمكانيات، ومُحسّنًا للكفاءة.
ويؤكد الخبراء أن الذكاء الاصطناعي يتطور من خلال التكرار، فكل إصدار جديد يبني على الإصدار السابق، مُعالجًا نقاط الضعف، ومُوسّعًا للإمكانيات، ومُحسّنًا للكفاءة. ومن خلال نماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر، تُنشئ شركات التكنولوجيا الصينية نظامًا بيئيًا يُحسّن فيه المطورون العالميون نماذجهم باستمرار دون تحمّل جميع تكاليف التطوير.
وقد يُعيد نطاق هذا النهج تشكيل الهيكل الاقتصادي للذكاء الاصطناعي جذريًا. إذا أصبح الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر بنفس قوة النماذج الأمريكية المُسجّلة الملكية، فإن القدرة على استثمار الذكاء الاصطناعي كمنتج حصري ستنهار. لماذا ندفع ثمن نماذج مغلقة إذا كان هناك بديل مجانيّ وذو كفاءة مُماثلة؟
بالنسبة لـ بكين، قد تكون هذه الاستراتيجية سلاحًا قويًا في حرب التكنولوجيا الأمريكية الصينية. قد تجد شركات الذكاء الاصطناعي الأمريكية، المبنية على تحقيق الربح من خلال تراخيص المؤسسات والخدمات المتميزة، نفسها في سباق نحو القاع، حيث يتوفر الذكاء الاصطناعي بكثرة، لكن الأرباح بعيدة المنال.
بالطبع يأتي هذا الأمر بمقابل، فإذا أصبح الذكاء الاصطناعي متاحًا بشكل مجاني، فلن يمنع أي شيء الشركات الأجنبية من العمل على النماذج الصينية وتحسينها، بل والتفوق على الشركات الصينية في المنافسة. بمرور الوقت، قد تواجه شركات مثل علي بابا و بايدو و “تين سنت” الضغوط نفسها التي تواجهها نظيراتها الأمريكية – مما يضطرها إلى تقييد الوصول لحماية الملكية الفكرية وجني الإيرادات.
إلى جانب ديناميكيات السوق، قد يكون لدى بكين أسبابها الخاصة لإعادة النظر في هذا النهج. قد تدفع الحكومة الصينية، التي تعطي الأولوية للسيطرة على التقنيات الرئيسية، أيضًا إلى فرض لوائح أكثر صرامة على الذكاء الاصطناعي لإدارة المعلومات المضللة، والحفاظ على الرقابة، وضمان الامتثال لسياسات الدولة.
ولكن في الوقت الحالي، يظل الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر أفضل رهان للصين، وأصبح وسيلة للمنافسة دون الوصول إلى أفضل الرقاقات أو ميزة التقدم المبكر في هذا القطاع.
ويقول الخبراء إن توقيت توجه الشركات نحو المصادر المفتوحة ليس مصادفة، بل هو استجابة لضيق الوقت. فمع تشديد القيود الأمريكية على الرقاقات وتقنيات الذكاء الاصطناعي في عهد الرئيس دونالد ترامب، وترسيخ نماذج الذكاء الاصطناعي الاحتكارية، فإن الاستراتيجية الأكثر فعالية للصين هي السرعة والحجم ويأتي ذلك من خلال إغراق السوق، وتغيير التوازن قبل ظهور احتكارات الذكاء الاصطناعي.
وإذا فازت OpenAI وجوجل ومايكروسوفت في سباق الذكاء الاصطناعي، فإن أفضل خطوة للصين لن تكون المنافسة، بل ستكون جعل هذا الفوز بلا معنى.
المصدر: الوكالة الألمانية – صحيفة فاينانشيال تايمز

